ذات يوم متجمد ... توافقت فيه هذه الأحداث ... مع مرض مريم الشديد .. كان ذلك في اللحظة التي سقط فيها المطر..
قالت المشرفة أنيسة ... أنت تبحث عن أمك ؟ ...
كانت أمه لا تزال حية .. مجرد شيء صغير ذابل ...
في التسعين من العمر .. ملفوفة بشال العجايز ...
وهي متواجدة الآن في بيت ( دار العجزة ) في بنغازي ...
ولم تتذكره ... وحين عرفها بنفسه ...
قالت : آه .. أنت أبني ؟ ..
عبد المجيد ... أمي ... عبد المجيد ...
عبد المجيد أنظري إلي أمي ...
أنت عبد المجيد؟ .. قالت ذلك غير مصدقة ..
فاركة شعرها المنسدل علي وجهها الذابل ..
قالت المشرفة : ولكن لم لم تأت لزيارة أمك ..!
ولقد أنقضت الآن شهور كثيرة ..
أي صنف من البشر أنت يا عبد المجيد؟..
أهتز بكل كيانه .. وتمايل .. وفك رباط عنقه .. وهز ذراعيه في الهواء ... وقال للمشرفة كلام’ لا يصدر من إنسان عاقل.
قالت أنيسه له .. لماذا تحقد علي ؟ ..
لا لزوم لهذا .. كفى .. شعر عبد المجيد بأن هدوءها وسرورها .. ينتقلان إليه .. وبعد صمت قصير قالت مبتسمه .. نحن مختلفون جدآ .. كلنا بشر .. منا من يسعي إلي الخير .. ومنا من يسعى إلي الشر ...
نحن لا نريد أن نحملك مالاطاقة ل كبه .. وبكت .. قال لها عبد المجيد .. لماذا تبكين ؟
قالت .. إني أرثي لك ولأمك .. ولنفسي أيضا ..
أشفق عليها بشدو للحظة خاطفة وضربها بين كتفيها ضربآ خفيفآ كما يفعل الأب .. أاعتدلت أنيسة واستمرت تنظر إلي زاوية لغرفة .. كان الألم يبدو بوضوح علي وجهها الذي جمد ..
كان الجو ممطرآ .. وكان السكون يخيم علي ( دار العجزة ) .
خفض عبد المجيد عينيه وأحنى رأسه .. وقد أحس بالإثم ...
لأنه أدرك ما قصدت إليه المشرفة .. نظر إلي أمه .. فوجدها ساهمة ..
وعلي وجهها ابتسامة حائرة .. قال للمشرفة .. لقد تغيرت كثيرآ أمي خلال فترت غيابي .. حدثيني عنها .. قالت له .. هذه أمك في ( دار العجزة ) الكثيرة التجاعيد .. الكثيرة النحالة .. كان واضحآ أنها تختلف عن الأمهات الأخريات .. وليست عجوزآ بسيطة .. بل صانعة حكايات .. كانت تحمل لكل الآثار والأطلال الدالة علي القدم : في بنغازي .. ذات بسمه معوجه من أثر الشلل . .
وكانت في بعض الأحيان تلوذ بالصمت في مهابة مثل كاهن تبيتي ...
وكانت أحيان أخرى .. تتحدث بحكايات تقلت ذهنها ...
والأرجح أنها حكايات تثير الريبة .. وتتذكر أحيانآ زقاق الشارع الصغير .. القابع بجوار ( الجامع ) ودكان الخضروات..
تقرب عبد المجيد من سرير أمه .. ودفن رأسه في حجرها وهو صامت .. حركت أمه يدها غير المشلولة .. ومسحت شعر رأس أبنها .. ونظرت إلي المشرفة مبتسمة .. قالت له المشرفة .. لابد أن يكون لدى المرء حب .. حب عظيم منزه عن الغرض إلي أبعد الحدود .. ثم هي .. أمك ...
أخذت أنيسة عبد المجيد من حجر أمه .. وقاوم عبرات تريد أن تنحدر علي خديه .. ولكنها أنفلتت .. إلي إدارة ( دار العجزة ) .. كان المدير يدخن وهو يلقي أنظاره عبر النافذة .. ويتحدث في موضوع يستغرق وقته للتفكير ..
فتحت المشرفة عينيها الجميلتين .. عينين طاهرتين .. ووضأت فيهما ابتسامة خجولة .. وقالت لعبد المجيد أمام المدير وبعض العاملات ...
في صوت أكثر لطفآ وهدوءا .. إن أمك يا عبد المجيد ( مواطنة ) هذا أمر ثابت ثبوت ( الله ) ...
إنها كائن بشري .. وليست حشرة تدوسها الأقدام ...
نحن وأنت فقط نعرف ما الذي نستطيع فعله ..
كانت ابتسامه حنونة تتزحلق علي شفتيها .
وأكملت إن الكلمة الطيبة لا تموت . .
ثم سربت أنيسة لعبد المجيد بعض الأعمال التي تقوم بها إدارة ( دار العجزة ) ..
كما يفعل المرء بالشئ النفيس .. وقد استعرضت أسماء نزل ( دار العجزة ) إسمآ إثر أسم .. وكأنها تستعرض الوجوه الذين سرحوا من ( دار العجزة ) .. هذا العدد من الرجال والنساء .. قد توفي ...
لقد كان ذلك أشبه بنداء علي الأسماء من وراء القبور .. لقد قضت أمك يا عبد المجيد سنوات من عمرها الأخيرة في
( دار العجزة ) وهي راضية بقليل من الحب .. وقليل من الاحترام .. وعندئذ تستطيع أن تمومت في غيابك .. مطمئنة قريرة العين ..
وهمست في أذن عبد المجيد قائلة .... كنت أتمني لو كانت أمي حية .. قال لها عبد المجيد .. ماذا كنت تفعلين ؟ ...
كنت أشتغل مثل المجنونة .. وأفتح محلات لبيع المواد الغذائية .. ثم أشتري لأمي بيتآ في حقل فسيح .. أنتصب هناك أمامها جامدآ .. يتأرجح مع خفقان قلبه وتمتم .. هل كنت مرة في حقل فسيح ؟ ..
أبتسمت في عذوبة وشئ من إرتباك ..
وقالت .. أجل .. كنت أحلم يا عبد المجيد .. كنت أحلم ...
قال لها عبد المجيد .. من المحزن أن يكون لديك حلم لن يتحقق .. هزت أنيسة رأسها مرتين وابتسمت ...
ثم بدأت تسرد إلية حقيقة سنوات المرض التي لاحقت أمه ..
ذات ليلة باردة .. أصيبت شلل مفاجئة .. فتدحرجت من فوق سريرها .. وأنت أنينآ خافتآ .. غير عالمة تمامآ بالذي حصل لها .. وظلت ملقية علي الأرض حتى وجدت من القوة ما مكنها من الصعود إلي الفراش .. وقد أحست بالمرض كما تحس الطيور بقرب تغير الطقس .. لا تيار بلا جدول يا عبد المجيد .
كان المدير يجلس صامتآ يتطلع إلي وجه عبد المجيد ...
يشد بيده اليمنى سيجارة لم تحترق .. وأكملت المشرفة ..
ونقلت أمك إلي المستشفي .. في الطريق كانت ترافقنا أمطار وسحب تزحف ببطء علي صفحة السماء .. وأخذت أمك ترتعش وتئن .. فيرن الأنين كما لو كانت تتابع ذكرياتها عن الناس الجيران .. والمقبرة .. وأزقة بنغازي .. حيث بقت شهرآ مخفيآ في المستشفي .. تحت رقابة ( دار العجزة ) ..
وتدخلت القدرة الإلهية للبقاء علي قيد الحياة .. ولم يبق لها غير شئ واحد هوا ... أسمها .. ( مريم ) .. وقالت لعبد المجيد
لقد أعجبني هذا الاسم كثيرآ .. إنه أسم نادر لإنسانة نادرة .. يبدأ بحرف .. م .. وينتهي بحرف " م " حقآ إنها (مريم ) مثل ( داود ) و (يحي ) عليهما السلام ..
تحدثت المشرفة أنيسة في حرارة إنسانية رائعة ..
شغلت عبد المجيد كثيرآ .. وقال لها .. لقد قسوت علي ..
وكأنك تصدرين حكم’ لا يقبل الاستئناف .. أحنت رأسها وصمتت .. خرج عبد المجيد من ( دار العجزة ) وودع أمه .
كان مديد القامة .. وله مشية غريبة .. يكاد يثني ركبتيه في كل خطوة .
مشت المشرفة إلي جانب عبد المجيد في هدوء وطمائنينة ..
وأطلعته علي سر لا يعرفه أحد سواه ..
كانت سيارة حكومية سوداء في انتظاره علي الفسحة أمام المدخل ...
وفكرت المشرفة في نفسها وقالت .. كل شئ كان يمكن أم يكون غير ذلك ..
إن هذه النوعية من الرجال الحديديين يحسنون الصعود علي السلم بسرعة ...
فيما كان عبد المجيد واقفآ علي متن سفينة ( غرناطة ) ومعه أسرته في رحلة سياحية إلي ( أثينا ) يراقب صخور ميناء بنغازي وهي تبتعد عن ناظريه ..
كانت الريح الباردة عبر مخرج الميناء .. منعشة .. محببة ,,,
والسماء عارية من الغيوم .. ونوارس البحر وهي تجوب بحر ( الشابي ) ..
واهتزاز مقدمة السفينة وهي تشق طريقها فوق الأمواج الهادرة .. وكل شئ يفيض بالفرح ... وهنا وضع عبد المجيد ذراعه علي كتف زوجته ...
كانت المشرفة تنهمك في العمل منذ إطلالة الصباح حتى عسسة الليل .. بصفة مشرفة .. وطاهية في بعض الأحيان .. وصديقة لنزلاء ( دار العجزة ) ..
فقد كانت تتميز بالطيبة .. ولها مسحة إنسانية حنونة في حياتها .. ثم توزعها بين نزلاء ( دار العجزة ) .. دون أن تفكر في أي ربح شخصي .. تعمقت مودتها مع نزلاء ( الدار ) حتي تجاوزت حدود المهنة ..
وسبب لها ألامآ إلي درجة اليأس .. وذلك حين وصلتها رسالة " عتاب " وجاعة وكاوية .. من جهة " أمرة "
أوصى بها أبن النزيلة ( مريم ) .. طوت الرسالة وبكت في صمت .. وقالت في نفسها .. إن الطلاء الذهبي يمحي .. أما الجلد الخشن فيبقي .. وعند أشعة فجر يوم عيد خريفي .. من وراء الأشجار .. ماتت أمه .. ونقلت إلي المقبرة ..
كان طفل صغير هزيلآ شاحبآ .. قد تمكن منه المرض فيما يبدو .. بجانب أمه المنحنية علي قبر .. ترابي .. يعزف علي ألته الموسيقية .. نهزته أمه ..
قال لها الطفل .. إنه اليوم ( عيد ) يا أمي ..
دجاجة ملونة تبحث عن قوتها اليومي .. وخلفها صغارها .. شيخ أعمي تقوده أبنته .. تجهد نفسها حتي الجنون بصوت يستجدي ..
حط طائر علي شاهد قبر .. يبحث عن ماء .. كان هناك كأس مغروس في وسط القبر من المرمر .. نصفه مملوء ماء .. إنه لا يعرف أن هذا المكان .. مجرد لحظة لدفن ألموتي ..
ثم يتلاشى أخر أثر من أثار الحب ....!
قالت المشرفة أنيسة ... أنت تبحث عن أمك ؟ ...
كانت أمه لا تزال حية .. مجرد شيء صغير ذابل ...
في التسعين من العمر .. ملفوفة بشال العجايز ...
وهي متواجدة الآن في بيت ( دار العجزة ) في بنغازي ...
ولم تتذكره ... وحين عرفها بنفسه ...
قالت : آه .. أنت أبني ؟ ..
عبد المجيد ... أمي ... عبد المجيد ...
عبد المجيد أنظري إلي أمي ...
أنت عبد المجيد؟ .. قالت ذلك غير مصدقة ..
فاركة شعرها المنسدل علي وجهها الذابل ..
قالت المشرفة : ولكن لم لم تأت لزيارة أمك ..!
ولقد أنقضت الآن شهور كثيرة ..
أي صنف من البشر أنت يا عبد المجيد؟..
أهتز بكل كيانه .. وتمايل .. وفك رباط عنقه .. وهز ذراعيه في الهواء ... وقال للمشرفة كلام’ لا يصدر من إنسان عاقل.
قالت أنيسه له .. لماذا تحقد علي ؟ ..
لا لزوم لهذا .. كفى .. شعر عبد المجيد بأن هدوءها وسرورها .. ينتقلان إليه .. وبعد صمت قصير قالت مبتسمه .. نحن مختلفون جدآ .. كلنا بشر .. منا من يسعي إلي الخير .. ومنا من يسعى إلي الشر ...
نحن لا نريد أن نحملك مالاطاقة ل كبه .. وبكت .. قال لها عبد المجيد .. لماذا تبكين ؟
قالت .. إني أرثي لك ولأمك .. ولنفسي أيضا ..
أشفق عليها بشدو للحظة خاطفة وضربها بين كتفيها ضربآ خفيفآ كما يفعل الأب .. أاعتدلت أنيسة واستمرت تنظر إلي زاوية لغرفة .. كان الألم يبدو بوضوح علي وجهها الذي جمد ..
كان الجو ممطرآ .. وكان السكون يخيم علي ( دار العجزة ) .
خفض عبد المجيد عينيه وأحنى رأسه .. وقد أحس بالإثم ...
لأنه أدرك ما قصدت إليه المشرفة .. نظر إلي أمه .. فوجدها ساهمة ..
وعلي وجهها ابتسامة حائرة .. قال للمشرفة .. لقد تغيرت كثيرآ أمي خلال فترت غيابي .. حدثيني عنها .. قالت له .. هذه أمك في ( دار العجزة ) الكثيرة التجاعيد .. الكثيرة النحالة .. كان واضحآ أنها تختلف عن الأمهات الأخريات .. وليست عجوزآ بسيطة .. بل صانعة حكايات .. كانت تحمل لكل الآثار والأطلال الدالة علي القدم : في بنغازي .. ذات بسمه معوجه من أثر الشلل . .
وكانت في بعض الأحيان تلوذ بالصمت في مهابة مثل كاهن تبيتي ...
وكانت أحيان أخرى .. تتحدث بحكايات تقلت ذهنها ...
والأرجح أنها حكايات تثير الريبة .. وتتذكر أحيانآ زقاق الشارع الصغير .. القابع بجوار ( الجامع ) ودكان الخضروات..
تقرب عبد المجيد من سرير أمه .. ودفن رأسه في حجرها وهو صامت .. حركت أمه يدها غير المشلولة .. ومسحت شعر رأس أبنها .. ونظرت إلي المشرفة مبتسمة .. قالت له المشرفة .. لابد أن يكون لدى المرء حب .. حب عظيم منزه عن الغرض إلي أبعد الحدود .. ثم هي .. أمك ...
أخذت أنيسة عبد المجيد من حجر أمه .. وقاوم عبرات تريد أن تنحدر علي خديه .. ولكنها أنفلتت .. إلي إدارة ( دار العجزة ) .. كان المدير يدخن وهو يلقي أنظاره عبر النافذة .. ويتحدث في موضوع يستغرق وقته للتفكير ..
فتحت المشرفة عينيها الجميلتين .. عينين طاهرتين .. ووضأت فيهما ابتسامة خجولة .. وقالت لعبد المجيد أمام المدير وبعض العاملات ...
في صوت أكثر لطفآ وهدوءا .. إن أمك يا عبد المجيد ( مواطنة ) هذا أمر ثابت ثبوت ( الله ) ...
إنها كائن بشري .. وليست حشرة تدوسها الأقدام ...
نحن وأنت فقط نعرف ما الذي نستطيع فعله ..
كانت ابتسامه حنونة تتزحلق علي شفتيها .
وأكملت إن الكلمة الطيبة لا تموت . .
ثم سربت أنيسة لعبد المجيد بعض الأعمال التي تقوم بها إدارة ( دار العجزة ) ..
كما يفعل المرء بالشئ النفيس .. وقد استعرضت أسماء نزل ( دار العجزة ) إسمآ إثر أسم .. وكأنها تستعرض الوجوه الذين سرحوا من ( دار العجزة ) .. هذا العدد من الرجال والنساء .. قد توفي ...
لقد كان ذلك أشبه بنداء علي الأسماء من وراء القبور .. لقد قضت أمك يا عبد المجيد سنوات من عمرها الأخيرة في
( دار العجزة ) وهي راضية بقليل من الحب .. وقليل من الاحترام .. وعندئذ تستطيع أن تمومت في غيابك .. مطمئنة قريرة العين ..
وهمست في أذن عبد المجيد قائلة .... كنت أتمني لو كانت أمي حية .. قال لها عبد المجيد .. ماذا كنت تفعلين ؟ ...
كنت أشتغل مثل المجنونة .. وأفتح محلات لبيع المواد الغذائية .. ثم أشتري لأمي بيتآ في حقل فسيح .. أنتصب هناك أمامها جامدآ .. يتأرجح مع خفقان قلبه وتمتم .. هل كنت مرة في حقل فسيح ؟ ..
أبتسمت في عذوبة وشئ من إرتباك ..
وقالت .. أجل .. كنت أحلم يا عبد المجيد .. كنت أحلم ...
قال لها عبد المجيد .. من المحزن أن يكون لديك حلم لن يتحقق .. هزت أنيسة رأسها مرتين وابتسمت ...
ثم بدأت تسرد إلية حقيقة سنوات المرض التي لاحقت أمه ..
ذات ليلة باردة .. أصيبت شلل مفاجئة .. فتدحرجت من فوق سريرها .. وأنت أنينآ خافتآ .. غير عالمة تمامآ بالذي حصل لها .. وظلت ملقية علي الأرض حتى وجدت من القوة ما مكنها من الصعود إلي الفراش .. وقد أحست بالمرض كما تحس الطيور بقرب تغير الطقس .. لا تيار بلا جدول يا عبد المجيد .
كان المدير يجلس صامتآ يتطلع إلي وجه عبد المجيد ...
يشد بيده اليمنى سيجارة لم تحترق .. وأكملت المشرفة ..
ونقلت أمك إلي المستشفي .. في الطريق كانت ترافقنا أمطار وسحب تزحف ببطء علي صفحة السماء .. وأخذت أمك ترتعش وتئن .. فيرن الأنين كما لو كانت تتابع ذكرياتها عن الناس الجيران .. والمقبرة .. وأزقة بنغازي .. حيث بقت شهرآ مخفيآ في المستشفي .. تحت رقابة ( دار العجزة ) ..
وتدخلت القدرة الإلهية للبقاء علي قيد الحياة .. ولم يبق لها غير شئ واحد هوا ... أسمها .. ( مريم ) .. وقالت لعبد المجيد
لقد أعجبني هذا الاسم كثيرآ .. إنه أسم نادر لإنسانة نادرة .. يبدأ بحرف .. م .. وينتهي بحرف " م " حقآ إنها (مريم ) مثل ( داود ) و (يحي ) عليهما السلام ..
تحدثت المشرفة أنيسة في حرارة إنسانية رائعة ..
شغلت عبد المجيد كثيرآ .. وقال لها .. لقد قسوت علي ..
وكأنك تصدرين حكم’ لا يقبل الاستئناف .. أحنت رأسها وصمتت .. خرج عبد المجيد من ( دار العجزة ) وودع أمه .
كان مديد القامة .. وله مشية غريبة .. يكاد يثني ركبتيه في كل خطوة .
مشت المشرفة إلي جانب عبد المجيد في هدوء وطمائنينة ..
وأطلعته علي سر لا يعرفه أحد سواه ..
كانت سيارة حكومية سوداء في انتظاره علي الفسحة أمام المدخل ...
وفكرت المشرفة في نفسها وقالت .. كل شئ كان يمكن أم يكون غير ذلك ..
إن هذه النوعية من الرجال الحديديين يحسنون الصعود علي السلم بسرعة ...
فيما كان عبد المجيد واقفآ علي متن سفينة ( غرناطة ) ومعه أسرته في رحلة سياحية إلي ( أثينا ) يراقب صخور ميناء بنغازي وهي تبتعد عن ناظريه ..
كانت الريح الباردة عبر مخرج الميناء .. منعشة .. محببة ,,,
والسماء عارية من الغيوم .. ونوارس البحر وهي تجوب بحر ( الشابي ) ..
واهتزاز مقدمة السفينة وهي تشق طريقها فوق الأمواج الهادرة .. وكل شئ يفيض بالفرح ... وهنا وضع عبد المجيد ذراعه علي كتف زوجته ...
كانت المشرفة تنهمك في العمل منذ إطلالة الصباح حتى عسسة الليل .. بصفة مشرفة .. وطاهية في بعض الأحيان .. وصديقة لنزلاء ( دار العجزة ) ..
فقد كانت تتميز بالطيبة .. ولها مسحة إنسانية حنونة في حياتها .. ثم توزعها بين نزلاء ( دار العجزة ) .. دون أن تفكر في أي ربح شخصي .. تعمقت مودتها مع نزلاء ( الدار ) حتي تجاوزت حدود المهنة ..
وسبب لها ألامآ إلي درجة اليأس .. وذلك حين وصلتها رسالة " عتاب " وجاعة وكاوية .. من جهة " أمرة "
أوصى بها أبن النزيلة ( مريم ) .. طوت الرسالة وبكت في صمت .. وقالت في نفسها .. إن الطلاء الذهبي يمحي .. أما الجلد الخشن فيبقي .. وعند أشعة فجر يوم عيد خريفي .. من وراء الأشجار .. ماتت أمه .. ونقلت إلي المقبرة ..
كان طفل صغير هزيلآ شاحبآ .. قد تمكن منه المرض فيما يبدو .. بجانب أمه المنحنية علي قبر .. ترابي .. يعزف علي ألته الموسيقية .. نهزته أمه ..
قال لها الطفل .. إنه اليوم ( عيد ) يا أمي ..
دجاجة ملونة تبحث عن قوتها اليومي .. وخلفها صغارها .. شيخ أعمي تقوده أبنته .. تجهد نفسها حتي الجنون بصوت يستجدي ..
حط طائر علي شاهد قبر .. يبحث عن ماء .. كان هناك كأس مغروس في وسط القبر من المرمر .. نصفه مملوء ماء .. إنه لا يعرف أن هذا المكان .. مجرد لحظة لدفن ألموتي ..
ثم يتلاشى أخر أثر من أثار الحب ....!